الجنوب اللبناني- تهدئة أم تصعيد إقليمي في ظل حراك دولي؟

تستدعي التطورات الميدانية المتفاقمة في الجنوب اللبناني خلال الفترة الأخيرة، تجديدًا عاجلًا للاتصالات الدبلوماسية بين المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين وكبار المسؤولين اللبنانيين. يهدف هذا المسعى إلى استئناف الجهود المبذولة لتهدئة الأوضاع المتوترة في الجنوب، ووضع الأسس لعهد جديد يقوم على اتفاق دبلوماسي وأمني مستدام طويل الأمد. من الواضح أن ملف المفاوضات الحساس، الذي عُهد به إلى رئيس المجلس النيابي نبيه بري من قبل حزب الله، يستلزم من هوكشتاين تواصلًا مستمرًا ومكثفًا، وذلك استجابة لرغبة الإدارة الأميركية الصارمة في الحيلولة دون تصعيد إقليمي واسع النطاق.
في الأيام القليلة الماضية، برزت نظرية مفادها أن لبنان قد انزلق إلى هاوية الحرب. بيد أن المعضلة الكبرى تكمن في أن أي حرب شاملة لن تفضي إلى نصر حاسم ونهائي لصالح أي طرف من الأطراف، بل ستفتح الباب على مصراعيه أمام نزاعات طويلة الأمد وتعقيدات جمة، مما يزيد من حدة الفوضى القائمة. لذا، فإن الأسباب الكامنة وراء تصاعد وتيرة التوتر الراهن ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالمفاوضات الحساسة الجارية خلف الأبواب الموصدة.
وقد دفعت هذه التطورات المتلاحقة فرنسا إلى الإسراع بالدخول إلى معترك الملفات الصراعية، لا سيما بعد أن استُبعدت فعليًا من ملف غزة. تسعى فرنسا جاهدة لترسيخ موطئ قدم لها في الملف اللبناني، ومنافسة واشنطن على النفوذ في لبنان.
إن الزيارات التي قام بها وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورنيه إلى العاصمة اللبنانية، والتي تأتي في سياق جولة إقليمية أوسع نطاقًا تشمل المملكة العربية السعودية، تزامنت مع جولة مماثلة لوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، والتي ستشمل أيضًا الرياض. في الوقت نفسه، تتردد أنباء عن زيارة وشيكة لمستشار الرئيس الأميركي لشؤون أمن الطاقة آموس هوكشتاين إلى لبنان وإسرائيل، ولكن لم يُحدد موعدها بعد. من المؤكد أنه لا يوجد تزامن مقصود أو مدروس بين هذه الزيارات الثلاث، على الرغم من أن الخلفية المشتركة لكل هذا الحراك هي نفسها، وتتصل بالترتيبات المستقبلية للمنطقة في مرحلة ما بعد حرب غزة.
ويبدو أن وزير خارجية واشنطن يعمل بتنسيق وثيق مع مستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان على ملف الترتيبات السياسية الكبرى لما بعد معركة رفح. ويشير هذا بشكل أساسي إلى مستقبل إعادة بناء السلطة الفلسطينية، التي تجلّت هشاشتها بشكل واضح خلال هذه الحرب. الأمر الأكثر إلحاحًا بالنسبة لإدارة بايدن هو إنجاز مشروع التطبيع الإسرائيلي السعودي، وانتظار تداعياته على التوازنات الإقليمية والدولية.
وانطلاقًا من هذا المنطلق، يعمل هوكشتاين في الخفاء مع رئيسي الحكومة ومجلس النواب على إنجاز صيغة مُرضية لملف الترتيبات في الجنوب، وذلك عندما يحين الموعد المرتقب لوقف إطلاق النار في قطاع غزة. وبالتالي، يهدف إلى التحضير لتطبيق القرار 1701 دون المساس بمندرجاته وتوازناته الميدانية الدقيقة.
أما الوزير الفرنسي، فيسعى جاهدًا للحفاظ على موطئ قدم لباريس في المنطقة، انطلاقًا من آخر معاقل نفوذها المتبقية، وهو لبنان، وذلك بعد سلسلة من الخسائر المتتالية في أفريقيا وليبيا. يأتي ذلك في ظل ما يشاع عن توصل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره الأميركي جو بايدن إلى اتفاق تنسيقي بشأن الملف اللبناني.
ولكن، بالنظر إلى تاريخ المنطقة وتقلبات الأحداث فيها، فإن هذا الحراك الغربي المكثف لا يعني بالضرورة أنه سيؤدي إلى نتائج ملموسة في الأمد القريب. وربما لهذا السبب تجري محاولة لملء الوقت الضائع عن طريق تصعيد الضغط على جبهة الجنوب بين حزب الله وقوات الاحتلال الإسرائيلي.
إذ لا يزال هناك متسع من الوقت قبل أن تتضح الصورة الميدانية في رفح، بعد فشل إسرائيل في تدمير البنية التحتية الصلبة لكتائب القسام. ويتجلى هذا الأمر اليوم في استمرار العمليات المنظمة والمصورة، وما تردد عن جولة ميدانية لقائد حركة حماس في قطاع غزة، يحيى السنوار، على خطوط القتال.
من هنا، فإن حزمة المساعدات المالية الهائلة التي أقرها الكونغرس الأميركي لإسرائيل تنبئ باستمرار الدعم الأميركي اللامحدود لحرب من غير المرجح أن تنتهي قريبًا جدًا. بل إن الطلب الإسرائيلي المتزايد على المزيد من شحنات الأسلحة والذخائر، والبدء في تحضيرها وإرسالها، يؤكد هذا التوجه. تجدر الإشارة إلى أن هذه الذخائر تتركز في معظمها على مدفعية الدبابات وقذائف الهاون، وهي معدات ضرورية للمعارك الهجومية على مسافات قصيرة ومتوسطة، وداخل المناطق السكنية المكتظة.
بالتوازي مع ذلك، يواصل الجيش الأميركي العمل على بناء الميناء العائم قبالة ساحل غزة، والذي من المفترض أن ينتهي العمل به خلال الشهر المقبل. وفي الوقت نفسه، فتح الأميركيون باب المناقصة لإعداد مئة ألف وجبة يوميًا، سيتم نقلها من لبنان إلى قبرص، ومن ثم إلى غزة، وذلك في ظل ما تتسربه أوساط أميركية عن إمكانية نقل جزء من سكان القطاع باتجاه دول أخرى.
وهناك اعتقاد راسخ بأن الوحشية الإسرائيلية المفرطة والمجازر المروعة، وتجاهل جميع الدعوات المطالبة بوقف إطلاق النار في غزة، يعود مردها الرئيسي إلى شعور قادة الاحتلال الإسرائيلي، ومن خلفهم قواعدهم الحزبية، بأنه لا توجد ضمانات حقيقية لمستقبل وجودهم وكيانهم. لذا، فإن جميع قادة اليمين الصهيوني حريصون على ترديد سردية مفادها أن هذه الحرب هي حرب وجودية ترسم معالم مستقبل الوجود الإسرائيلي ككل.
من هذا المنطلق، يمكن فهم الطلبات المتزايدة من قبل الإسرائيليين للحصول على جوازات سفر أميركية وأوروبية وروسية بأعداد مضاعفة عما كانت عليه الأوضاع قبل عملية "طوفان الأقصى". الأمر الذي يستوجب، وفقًا للحكومة الإسرائيلية، تحقيق نتائج ميدانية ملموسة تعيد ثقة الإسرائيليين ببقاء دولتهم الهشة. ومما زاد من حدة الشعور بالهزيمة الإسرائيلية هو فشل الجيش في تحقيق انتصارات واضحة، والعجز عن تحقيق الأهداف التي أعلن عنها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الأمر الذي استدعى لدى ائتلاف اليمين المتطرف البحث عن ذرائع واهية لتبرير استمرار الحرب.
في الوقت نفسه، جاء مشروع العقوبات الأميركية غير المسبوقة على كتيبة "نيتساح يهودا" في الجيش الإسرائيلي ليضع الجيش والحكومة أمام مسلمات أميركية مقدسة، وهي منع حدوث أي عملية تهجير قسري للفلسطينيين في الضفة الغربية والداخل المحتل عام 1948، تمامًا كما يجري العمل عليه في غزة، وفقًا لسياسة أعرب عنها مدير مكتب الأمن القومي الأميركي برايت ماكغورك، ومفادها أن ما ينطبق على غزة، لا ينطبق بالضرورة على الضفة الغربية والداخل.
كل هذا المسار المتشعب يقابله مسار إقليمي موازٍ. فتركيا، التي دخلت على خط الملف الفلسطيني بالتنسيق مع القطريين والمصريين، تهدف إلى إنشاء منصة حماية إقليمية لحركة حماس، كونها استطاعت الحفاظ على وجودها السياسي المحوري في اللعبة والمنازلة الجارية. من هنا يمكن فهم الحملة الممنهجة التي يقودها اللوبي الصهيوني، مدعومًا من مراكز تأثير ودراسات مدعومة من الحزب الجمهوري ومنظمة "الأيباك" وبعض الدول الإقليمية، على دولة قطر ودورها الفاعل في الوساطة. وقد ردت الدوحة على هذه الحملة بحزم سياسي كبير.
لذا، فإن التدخل التركي مكمل للدورين القطري والمصري، وليس بديلًا عنهما. كذلك، فإن الحملات التي يشنها بعض القادة الجمهوريين المقربين لا تعدو كونها محاولة انتخابية لكسب أصوات اليمين المتطرف في الداخل الأميركي، ودفعهم للتصويت ضد جو بايدن، في ظل التماهي والتنسيق المشترك بين الدوحة وواشنطن في جميع الملفات الإقليمية، والتي يعد أبرزها الملف اللبناني ضمن ما يسمى "اللجنة الخماسية".
وقد أدت هذه التحولات المتسارعة إلى مسارعة فرنسا للدخول إلى الملفات الصراعية المعقدة، لا سيما بعد أن استُبعدت فعليًا من ملف غزة. تسعى فرنسا جاهدة لترسيخ أقدامها في الملف اللبناني، ومنافسة واشنطن والدوحة على النفوذ في لبنان. لذلك، رعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اجتماعًا مع قائد الجيش ورئيس الحكومة اللبنانية. وبات من الواضح أن لقاء ماكرون مع ميقاتي وعون ينطوي على تفاهمات مسبقة جرى التوصل إليها مع الإدارة الأميركية.
وقد بدا من تصريحات المسؤولين اللبنانيين الذين يزورون باريس أن المسؤولين الفرنسيين يعيشون قلقًا متزايدًا إزاء الاندفاعة القطرية القوية في الملف اللبناني، بالتنسيق مع واشنطن والرياض، إضافة إلى دورها المتنامي في الشرق الأوسط. ويرجع هذا القلق بشكل خاص إلى مرونة قطر وقدرتها الفائقة على التواصل مع مختلف الأطراف اللبنانية، مما يسهل حضورها الوازن. ومن هنا أتت جولة الوزير الفرنسي المكوكية في المنطقة، مما يعني أن انتظار نتائج حاسمة في الوقت الراهن لا يبدو أمرًا منطقيًا.
لكن النقطة المحورية تبقى مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بانتهاء القتال الدائر في قطاع غزة، مع عدم إغفال حقيقة أن المراحل المشابهة في السياسة الإقليمية كانت تشكل دائمًا مراحل ضياع وتخبط، تسودها الفوضى العارمة، بهدف تمكين أطراف المنطقة من تحسين شروط وجودها وتعزيزها.
